بحث هذه المدونة الإلكترونية

Powered By Blogger

الاثنين، 15 يناير 2018

شبرا بلولة مملكة العطور في مصر

شبرا بلولة مملكة العطور في مصر

  • مراحل صناعة زيوت النباتات العطرية مصحوبة بحكايات من التعب والشقاء، أبطالها من البسيطات اللاتي يعشن في قرية صغيرة بمحافظة الغربية في شمال القاهرة، لكن يصررن على العمل والكدّ، روائحهن تفوح منها معالم الكدح والنقاء، ومن هناك يصدر جزء كبير من إنتاج العالم من الزيوت والنباتات الطبية التي تعرض في أرقى المحلات العالمية.



نساء الرائحة النقية (تصوير: محمـد حسنين)

الغربية (مصر) – لا تختلف قرية “شبرا بلولة”، التي تبعد نحو 112 كيلومترا عن القاهرة، عن باقي قرى الريف المصري، بأراضيها الطينية وطرقها الترابية الضيقة المتعرجة، ومنازل الفلاحين المتواضعة ذات الطابق الواحد، لكنها تتميز عن غيرها بصناعة عجينة الياسمين والزيوت العطرية والنباتات الطبية، وتعتمد عليها أكبر مصانع العطور الفرنسية والأميركية وبعض الدول الأوروبية.
ما إن تطأ قدماك أرض المكان المعروف باسم “مملكة العطور”، حتى تهل عليك روائح أزهار الياسمين والنارنج والماندرين والبنفسج، تلك الروائح الطبيعية المنتشرة في الهواء، إنها ليست مجرد أزهار تمتد جذورها في ربوع الأراضي الطينية، بل عنوان لأهمية أهالي القرية عند كبار رجال صناعة العطور، ممن يتلقون المنتج النهائي من الزيوت، دون الالتفات إلى الأيدي العاملة صاحبة الفضل في ذلك.
لا تعرف مملكة العطور معنى البطالة، لأن معظم سكانها، ويصل عددهم لنحو عشرة آلاف فرد، وفقا لآخر الإحصائيات الرسمية، يعملون في زراعة وتجميع وتصنيع النباتات العطرية واستخلاص زيوتها، ويشكل العنصر النسائي حوالي 90 بالمئة من العمالة الزراعية في تجميع الزهور، لتدني أجور النساء قياسا بالرجال ممن يعملون في عملية التصنيع لأنها تحتاج إلى مجهود عضلي وبدني.
تلتقط الأيادي الزهور العطرية بعد أن تترعرع ويكتمل نموها، لتصطحبها في رحلة ممزوجة بالتعب حتى تتحول إلى قطرات زيتية عطرية أو طبية، تباع بأغلى الأسعار، في حين يحصل صانعوها على مقابل مادي متواضع، لذلك فإن ما بين جمع الأزهار وتصنيعها حكايات مشوقة ومؤلمة في آن واحد.
أمام زهور الياسمين تتجمع الفتيات ببراءة الزهر وتتعالى ضحكاتهن في رحلة التجميع الليلية، وفي جولة لـ”العرب” روين أحلامهن، التي كانت جميعها تتوق إلى الستر والراحة واهتمام المسؤولين بهن حتى يلحقن بقطار التعليم ومحو أميتهن.

النارنج يفوح بين أيدي المزارعات

براءة الزهرات
تروي هبة جمعة، امرأة ثلاثينية وأم لثلاثة أطفال، تعمل في جمع أزهار الياسمين والنارنج، إنها رحلة شقاء يومية، وقالت لـ”العرب”، إنها تستيقظ في جوف الليل وتحديدا على الساعة الواحدة صباحا، لأن جني زهر الياسمين لا يتم إلا ليلا، فهو نبات ناعم ورقيق ويحتاج إلى عناية خاصة في التعامل معه.
تعرف هبة خصائص زهر الياسمين وتتعامل معه كطفل صغير يحتاج إلى تدليل، وتضيف، إن الياسمين يعشق الندى الذي تتساقط قطراته عليه فيمتصها ليثقل وزنه ويظل مزهرا وطازجا نديا، ويكره أشعة الشمس لأنها تسبب له الاصفرار والذبول، لكن رغم المجهود الذي تبذله هذه العاملة القروية البسيطة، فإن دخلها اليومي لا يتخطى 100 جنيه مصري (نحو ستة دولارات)، وتتقاضى هذا الأجر في أكثر المواسم عملا وجنيا.
ما يحصل عليه “الجمّيعة” وهم العاملون في مهنة جمع الأزهار من أجر، يجعلهم يعيشون على حدّ الكفاف، رغم شقاء العمل في الحقول. لذلك تعاني نساء القرية من التهميش وضعف الدخل والأمية، وعلى نفس وتر الشقاء تعيش نسمة حسن وطفلاها أحمد (10 سنوات) وسالم (13 سنة)، ويعملون جميعا في جني الثمار.
أكدت نسمة، أن الفلاح لا يستفيد من ثمن المحصول سوى بالفتات، فالعائد المالي يذهب كله تقريبا إلى أصحاب مصانع العطور وملاك المزارع الكبيرة، أما صغار المزارعين فيبيعون الكيلوغرام بحوالي أربعين جنيها مصريا (ثلاثة دولارات)، وهم قلة ولا يمتلكون غير حيازات صغيرة من مساحات الأراضي.
ولفتت إلى أن غالبية الفلاحين الذين يعملون في جني المحصول هم “أجراء” يتقاضون أجرا يوميا قدره 150 جنيها (نحو ثمانية دولارات)، بينما يعمل البعض الآخر في جمع الياسمين وهي واحدة منهم، وتتقاضي مقابل ما جنته يداها، الذي لا يتخطى أربعة كيلوغرامات، وتتقاضي 50 جنيها عن الكيلو الواحد (ثلاثة دولارات).
كانت مثل هذه الزراعات سببا في علو شأن قرية “شبرا بلولة” وذيوع صيتها، وهو ما ألمح إليه حمادة الشرقاوي الذي يمتلك مصنعا للعطور هناك.
وقال لـ”العرب” إن قريته البسيطة ذكر اسمها “في منصات البورصات العالمية لتجارة النباتات العطرية، حتى أن الأسواق الفرنسية والأميركية تنتظر محصولها كل عام”.
تمر زراعة الياسمين بعدة مراحل بداية من الزراعة التي تحتاج إلى معاملة تختلف عن باقي أنواع الزراعات الأخرى، أما موسم جمع الياسمين فيستمر طيلة ستة أشهر، بداية من شهر يونيو وحتى نهاية ديسمبر.
أكد الشرقاوي أن عملية جني الزهرات يتم يدويا دون تدخل المعدات الزراعية إطلاقا، ويعود ذلك لصعوبة وضيق المسافات بين الأشجار، إضافة إلى كثافة خضرية تفوق الكثافة الزهرية، لذلك قد تتعرض الزهرات للتلف حال استخدام الآلات الزراعية.

رحلة العمر شقاء وعطر

جني أوراق الثمار يتم بفصلها بسرعة ورفق عن الساق، ويحتاج جني الفدان الواحد (نحو أربعة آلاف ومئتي متر مربع)، إلى أيدٍ عاملة من 25 إلى 30 عاملا، يبدأون عملهم في الواحدة من بعد منتصف الليل وحتى الساعة العاشرة صباحا، ويبلغ متوسط إنتاجية العامل الواحد من 3 إلى 6 كيلوغرامات يوميا.
ثم تأتي مرحلة التجميع بعد عملية الجني، وهناك وسيط دائم بين الفلاحين وأصحاب المصانع، معروف في المجتمعات الريفية باسم “الخولي”، وهو مسؤول عن جلب العمالة وتنظيم وتوزيع الأدوار، وحتى وصول المحصول إلى المصانع، وتبدأ عملية فرز واستلام الياسمين، لتحديد نسبة جودته، بعدها تبدأ عملية التصنيع بدخول الزهرات إلى مرحلة الإنتاج، لاستخلاص المادة الخام منه باستخدام مذيبات عضوية، ثم تحويلها إلى عجائن وزيوت وتصديرها إلى الخارج.
عطور وذهب منثور
في استراحة لتناول الشاي، جلست مبروكة الرفاعي (80 عاما)، لتختطف رشفات من كوب شاي ساخن تمثل لها المتعة خلال استراحة قصيرة لالتقاط الأنفاس، ثمّ تعود بعدها إلى استكمال جني محصول زهر النارنج، الذي يتزامن جنيه مع موعد جني الياسمين، ويبدأ بعد منتصف الليل ومع الساعات الأولى لفجر اليوم التالي.
ينتهي العمل ولا ينتهي أنين مبروكة التي قضت عمرها كله وسط الحقول، وبضحكة ساخرة قالت لـ”العرب”، “نحن بلد العطور والذهب المنثور لكن خيرنا يذهب إلى غيرنا”، في إشارة إلى أن المستورد هو المستفيد الأول من زراعات قريتها، وألمحت العجوز إلى أن هذه المزارع والمصانع موجودة منذ عهد الملك فاروق (ملك مصر قبل ثورة 1952).
ورث زوجها الراحل حوالي فدانين من الأرض الخصبة عن أبيه، وقد أصبحت مساحتها الآن ثلاثة قراريط فقط، بعد أن اضطرت إلى بيع جزء كبير من الأرض للإنفاق على تربية أولادها، وتركت رحلة الشقاء آثارا من التجاعيد على وجه العجوز وقد تحلّت كلماتها كلها بالحكمة.
تمر مراحل زراعة أشجار النارنج المعمرة دائمة الاخضرار بعدة مراحل، ولها صفات مميزة من حيث الأزهار البيضاء ذات الرائحة العطرية والأوراق السميكة قاتمة اللون، كما تتميز بأنها ثرية بالزيوت العطرية ويستخرج منها ماء الزهر، وعصارة أخرى تستخدم للأغراض الطبية الاستشفائية.
في واحدة من الأراضي الزراعية، يقف حسام محمود الشاب العشريني ذو البشرة السمراء، وهو يمسك بـ”شقرفة” (مسحاة) لتنظيف الأرض وفصل الحشائش الضارة لتهوئة تربة المزرعة. يقول حسام، إنه يعمل في كافة مراحل الإنتاج منذ أن كان عمره ست سنوات، وذلك بداية من الزراعة، مرورا بخدمة الأرض وتقليب التربة والري وجني الثمار، وحتى الوقوف على الغلاية في مصنع العطور.

روائح تفوح منها معالم الكدح

ويختلف الماندرين عن الياسمين والنارنج، لأن زيوته يبدأ العمل فيها منذ بداية شهر يناير وحتى شهر مارس، ويتم تصنيعه بتدوير أوراق ومخلفات أشجار اليوسفي، ثم يتم كبس هذه المخلفات الزراعية بالتقطير للحصول على مستخلص الزيت، دون أن يُهدر شيء منها مطلقا، فمخلفات التصنيع يعاد ردّها إلى مصانع إنتاج الوقود الحيوي لاستخدامها في الطاقة النظيفة، صديقة البيئة.
رغم أن هذه القرية الصغيرة تعتبر قوة اقتصادية في صناعة الزيوت العطرية والطبية، غير أن السوق الأوروبية تتحكم في الأسعار، إضافة إلى أن فرنسا والولايات المتحدة قد اتجهتا لشراء الزيوت بأقل الأسعار من الهند والمغرب كبديل للمنتج المصري، رغم جودته العالية وتحديدا “الياسمين القطوري”، وتظل مصر الأنسب لإنتاج الياسمين الذي يحتاج إلى مناخ معين ودرجة حرارة عالية.
يقول المهندس أشرف الشبراوي صاحب أحد المصانع الكبيرة بالقرية لـ”العرب”، إن صناعة استخلاص زيوت الياسمين تدهورت منذ فترة التسعينات من القرن الماضي، ويقدر الإنتاج العالمي اليومي من زيوت الياسمين بنحو 14 طنا، وتمتلك مصر النصيب الأكبر من هذه الكمية الضخمة، حيث تقوم بإنتاج نصفه تقريبا، نظرا إلى امتلاكها ستة مصانع منها مصنعان في قرية “شبرا بلولة” ومثلهما في مركز بسيون التابع لنفس المحافظة (الغربية)، علاوة على مصنعين آخرين في مدينة السادات شمال القاهرة.
مهنة قديمة
يشير الشبراوي إلى أن مهنة صناعة العطور بالقرية، تعود إلى خمسينات القرن العشرين، عندما أنشأت سيدة فرنسية تدعى سيسيل كحيل، أول مصنع لإنتاج العطور من زهرة الياسمين التي تشتهر بها القرية، لتوفر طقس مناسب لزراعتها.
وأضاف، أنه بعد جني المحصول يتم تجميعه في معدات ضخمة، وتسكب عليه مادة كيميائية تسمى “الهكسان”، وهي من الزيوت التي تساعد أزهار الياسمين على العصر، ويشرح بقية تفاصيل عملية التصنيع قائلا، إنه يتم فصل زيت الهكسان مرة أخرى عن طريق مضخات البخار وسحبها بمواسير إلى ماكينات الترشيح، وذلك للتمكن من استخلاص الزيت النقي دون شوائب، قبل أن يتم تحويلها إلى ما يسمى بـعجينة الياسمين، ويستخلص منها عطر الياسمين الخام لتعبئته في عبوات معدنية محكمة الإغلاق التي يتم تجهيزها للتصدير.
وحاليا يستخلص نحو 800 غرام زيت عطري من كل طن من محصول الياسمين، أما في فترة التسعينات من القرن الماضي فكانت هذه الصناعة أكثر زهوا ونجاحا، إذ كان يستخلص نحو ثلاثة كيلوغرامات من كل طن، ويعود ذلك إلى تدهور زراعة الياسمين وعدم الاهتمام الرسمي بأحوال الفلاح وإهمال ورش البذور والعيدان.
ويوضح الشبراوي، أن سعر الكيلوغرام الواحد من عجينة الياسمين يصل إلى 60 ألف جنيه مصري (نحو 3 آلاف دولار)، وتدر زهرة الياسمين على مصر دخلا شهريا يبلغ حوالي مليون دولار.
وتنتج القرية أنواعا أخرى من الزيوت العلاجية التي يتم استخدامها في علاج الأمراض وتصنيع الدواء مثل، زيت البنفسج والقرنفل والبردقوش والنعناع والكمون، فضلا عن زراعة نبات “حورية” التي تباع إلى شركات الأدوية في أوروبا، ويستخرج منها الكالسيوم.

ليست هناك تعليقات: