جروبى
..... وتاريخ عريق
جروبى
1924
كان
مقهى جروبى
الذى يقع فى ميدان
طلعت حرب بمدينة
القاهرة هو المكان
المفضل للطبقة العليا
المصرية ، في زمن كان
يعتبر فيه أفخم دار
للشاي في العالم قاطبة.
وما يزال جروبى حتى
اليوم يحتفظ بسحره
وبريقه الذي كان له في
يوم من الأيام على
الرغم من تراجع حالته
من الداخل نوعاً ما ،
وجروبى الذي بناه صانع
الحلويات والمعجنات
السويسري الشهير (
جياكومو غروبي ) كان
النجم في عدد لا يحصى
من الأفلام السينمائية
والأعمال الأدبية .
جروبى أسطورة
حية في وسط القاهرة وما
يزال حتى اليوم وجهة
زوار المدينة ، إنه
تجسيد لزمن لن يعود ،
زمن الثروات والتباهي
بها ، زمن ملوك مصر
وأمرائها وباشواتها
وأباطرة قطنها ، حين
كان الجنيه المصري
يفوق في قيمته الجنيه
الإسترليني والدولار .
|
جياكومو
غروبي
|
كان
جروبى فيما مضى مكاناً
للمكائد السياسة ،
وساحة لعقد الصفقات
التاريخية ، وتجمع
الكتاب والصحفيين
والفنانين ونجوم
السينما ونجوم المجتمع
من محبي الظهور ،
واليوم تتناقص أعداد
أولئك الذين عايشوا
وعاصروا جروبى في أيام
مجده ، وهؤلاء الذين ما
يزالون على قيد الحياة
منهم يقولون الشعر فيه
حين يتحدثون عن تلك
الأيام الجميلة
الغابرة .
يتذكر
المهندس المعماري شفيق
نخلة ما كان جروبى يعني
له في الأيام الماضية
ويقول وهو يسرح ببصره
بعيدا ً: "آه كم كنت
أحب جروبى " .
ويضيف
: " في الخمسينيات
كنا نعيش في مدينة
أسيوط وكنا نمضي شهور
الصيف في مدينة
الإسكندرية ، وفي
طريقنا بين أسيوط
والقاهرة كنا نتوقف
لأسبوع عادة في فندق
شيبرد في القاهرة ،
وكنا نحن
الأطفال لم يكن يسمح
لنا بمغادرة الفندق
دون أن تكون معنا
مربيتنا ، غير اننا كنا
نقنع عبده ، مدير
المنزل ، بأن يأخذنا
إلى حديقة جروبى كل
صباح لنأتي بالكرواسان
الطازج للفطور ، ما زلت
أذكر مذاقه حتى اليوم .
شفيق
الذي يتلذذ باسترجاع
ذكريات الزمن الجميل ،
يتحدث بحماس عن حلويات
بتي سويس ومارون
غلاسيه من جروبى التي
يقول عنها أنها "
أفضل من كل ما يقدمونه
في باريس منها " ،
وما كاد شفيق ينتهي من
كلماته حتى انضمت إليه
في حديث الذكريات
زوجته ماريان مدرسة
اللغة الإنكليزية في
الجامعة الأمريكية
بالقاهرة .
نظير
فورتنام وماسونز فى
القاهرة :
تقول
ماريان زوجة شفيق "
كان والداي غالباً ما
يأخذاني إلى الحديقة
لتناول آيس كريم
الفراولة بالصودا ،
وكانت أعياد الميلاد
والفصح مواسم رائعة
تشهد عروضاً خاصة
وأشجار الميلاد الضخمة
والأكياس الممتلئة
بالسكاكر والحلويات
وألعاب بابا نويل
بالحجم الطبيعي ودمى
عيد الفصح ، يمكنك
القول أن جروبى كان
النظير القاهري لمحلات
فورتنام وماسونز
اللندنية " .
ليون
وهبة الذي عاش في
السابق قرب مقهى جروبى
في شارع سليمان باشا ،
وهو الآن يحمل الجنسية
الأمريكية ، يتذكر تلك
الأيام أيضاً : " كان
عمري 13 عاماً عندما
رحلنا عن القاهرة ، غير
أن أجمل ما أتذكره هو
آيس كريم جروبى ، الذي
يباع من الثلاجات على
الدراجات ، كان باعة
الآيس كريم يتوقفون
خارج مدرستي ، وكان
الآيس كريم شيئاً
رائعاً في نهارات
القاهرة الحارة " .
ويصف
عادل طوبوزاده ، وهو
نائب سابق لوزير
الإعلام وحفيد رئيس
الوزراء الأسبق حسين
باشا رشدي ، أيام
الشباب حول ساحة طلعت
حرب بأنها " غير
عادية " .
ويقول
: كانت تلك الشوارع
مكاناً لأفضل المقاهي
ودور الشاي ، غير أن لا
أحد منها كان بمقدوره
منافسة جروبى ، وكان من
المشاهد المعتادة في
تلك الأيام أن ترى
الأرستقراطية وهم
يترجلون من سيارات
رولز رويس أو كاديلاك
لمواعيد تصفيف الشعر
في صالونات سقراط أو
جورج أو كليماتيانوس
التي كانت تبيع أيضاً
أفخر القبعات وربطات
العنق الرجالية ، في
تلك الأيام كانت
المتاجر مكدسة بكل ما
يمكن أن تتمناه من
منتجات باريس أو لندن
أو روما ، وفي
أيام الدراسة كنا
دائماً ما نذهب إلى
جروبى أو لوكس ونحن في
كامل أناقتنا ، كانت
تلك الزيارات مناسبات
حقيقية يبدو الناس
فيها وكأنهم ذاهبون
إلى حفلة ، والنساء
ترتدي فساتين السهرة
الطويلة والفرو ، كان
غروبي المكان الذي
يذهبون إليه ليروا
بعضهم ويراهم الآخرون ،
كان للصحفي والشاعر
كمال الشناوي طاولته
الخاصة هناك ، وغالباً
ما كنت أرى الكاتب
توفيق الحكيم الذي كان
يشاع عنه كرهه للنساء ،
وخلال الحرب العالمية
الثانية كان رجال
الجيش الثامن
البريطاني يترددون على
جروبى في شارع عدلي
باشا ( وهو فرع ثان
لجروبى ) المفضل لدى
الجنرال مونتغمري ،
والذي كان يزوره
للاستمتاع بأماسي
موسيقى الجاز في
حديقته .
الاسرى
الالمان :
يذكر
الكولونيل ديفيد ساذرلاند ،
الذي جسد ديرك بوغرارد شخصيته
في فيلم " أولئك الشجعان "
عن الحرب العالمية الثانية ، في
مذكراته كيف دعى أسيرين
ألمانيين لتناول الشاي في جروبى
قبل أن يسلمهما للمحققين
البريطانيين .
وتصف
سيرة الأدميرال سير هوريس لو ،
أحد أحفاد هوراشيو نلسون ، كم
استمتع الضيوف في حفل زفاف لو
بكعكعة من صنع جروبى ، التي لم
يكن الحصول على مثلها منذ سنوات
في لندن .
غير
أن البريطانيين لم يكونوا وحدهم
الذين يترددون على جروبى أيام
الحرب ، تقول شهادة موقعة بيد
المواطن السويسري والجاسوس
الفاشي ثيودور جون وليام سكيرش
الذي أسره البريطانيون أنه كان
يلتقي الضابط الإيطالي المسؤول
عنه في جروبى .
كما
يشير ميكروفيلم في أرشيف
الاستخبارات الألمانية إلى أن
أدولف إيخمان ، الذراع اليمنى
للزعيم الألماني أدولف هتلر،
زار القاهرة عام 1937 وهناك التقى
بعضو من عصابة الهاغانا يومي 10 و11
أكتوبر من ذلك العام في جروبى -
وهو لقاء تفضل بعض المراجع
التاريخية أن تمحوه من التاريخ .
كما
يتحدث طيار من سرب القاذفات 98
الأمريكي عن أمسية أمضاها في
حديقة جروبى في الأربعينيات
قائلاً : نهاية الأمسية توقف
الموسيقيون عن العزف وغادر كل
الراقصون المنصة التي ارتفعت
بعد ذلك هيدروليكياً قرابة
قدمين عن الأرض لتقديم عرض فني ،
كانت المجموعة تضم عدداً من
أفضل الراقصين ... أعتقد أنه كان
أفضل عرض راقص شهدته في حياتي .
في
1952 كاد جروبى يتعرض للتدمير
نتيجة تردد زبائنه البريطانيين
عليه ، ويتحدث شاهد مصري مجهول
الهوية عن أحداث ذلك اليوم الذي
كاد فيه المتظاهريون المصريون
يحرقونه .
في
البداية سمعت صوت تحطم زجاج
النوافذ في جروبى ، ودخل بعض
المتظاهرين لداخل المقهى
وأخرجوا العاملين ليكونوا
آمنين في الخارج ، ثم تسلق البعض
إلى اللوحة الإعلانية لجروبى
وأنزلوا الشعار الملكي من عليها
، وأخذوا بعد ذلك يتقدمون
ليحطموا كل شيء فيه .
غير
أن جروبى سرعان ما عاد للعمل في
السنوات الأخيرة من الخمسينيات
، يقول طوبوزاده : كان تناول
الإفطار في جروبى شيئاً من
الموضة الراقية ، حيث تجلس إلى
جانب الباشوات والساسة
المشهورين والفنانين والكتاب
والمحررين مثل علي أمين ومصطفى
أمين ومحمد الطيبي ،
غير
أن سعيد ذوالفقار ، المسؤول
السابق في اليونيسكو والأمين
العام لمؤسسة آغا خان ، الذي
يعيش الآن في فرنسا لديه ذكريات
أقل جمالاً عن وجبات الإفطار في
جروبى .
ويقول
: عشت في القاهرة عامي 1960 و1961
حينما كنت أحضر لشهادة
الدكتوراة ، وكنت أسكن مقابل
جروبى في الشارع نفسه ، في فندق
توليب حيث أدفع جنيهاً مصرياً
واحداً كل ليلة وهكذا ، كانت
عادتي تناول الفطور في جروبى
الذي كان
المكان
المثالي في القاهرة لألتقي
برواده المنتظمين ممن ساعدوني
في أطروحتي ، وكان بينهم صحفيون
ومؤرخون وسفراء وأفراد من
الملحقية التجارية الفرنسية في
القاهرة ( أغلقت السفارة
الفرنسية في القاهرة بعد حرب
السويس عام 1956 ) ، اللقاءات
الصباحية اليومية على الفطور
استمرت ثلاثة شهور وأصبت بعدها
بالتهاب الكبد وذهبت إلى شقة
جدتي في الإسكندرية للنقاهة ،
أذكر هذه المعلومة لأن غيابي عن
القاهرة أنقذني من مصير مخيف ،
في أحد الصباحات أغارت
المخابرات على جروبى واعتقلت كل
الموجودين فيه بتهمة أن
الفرنسيين كانوا يتآمر مع صحبة
الإفطار من المصريين للإطاحة
بالنظام ( وهي تهمة فارغة
بالكامل ) ، وبقي هؤلاء في
المعتقل ستة شهور قبل إطلاق
سراحهم كلهم دون توفر أي دليل
على وجود مثل هذه المؤامرة .
ويقول
ذوالفقار : لم أعد بعدها أبداً
لتناول إفطاري اليومي في جروبى
كما لم أعد أبداً للإقامة في
فندق توليب الذي ما يزال
موجوداً حتى اليوم .
المتأمرون
اليساريون والمخابرات :
يصف
ماكس رودنبك في كتابه ( القاهرة
المدينة المنتصرة ) الأجواء
المترفة في جروبى ومقهى كافيه
ريتش المجاور وكلاهما كان له
نصيبه من "المتآمرين
اليساريين والمخابرات ،
في
عام 1981 بيع جروبى لعبد العزيز
لقمة ، مؤسس مجموعة لقمة ،
مالكته الحالية ، كما يقول حليم
الخادم المدير العام لجروبى ،
وفي ذلك العام تم إغلاق البار في
جروبى الذي توقف عن بيع
المشروبات الكحولية .
وقال
لي الخادم إن ( جياكومو جروبى )
كان أول من أدخل الكريم شانتييه
والآيس كريم إلى مصر ، كما أن
الشوكولاه التي كان يقدمها كانت
من نوعية عالية جداً جعلتها
شهيرة في العالم أجمع .
وكان
الملك فاروق معجباً جداً
بشوكولاه جروبى وقد أرسل خلال
الحرب العالمية الثانية 100
كيلوغرام من الشوكولاه هدية إلى
الملك جورج ولبناته الأميرتين
إليزابيث ومارغريت .
وأخبرني
الخادم أن هذه الهدية أرسلت على
سفينة تفادت الغواصات
الألمانية بأخذ طريق إلتفافية
إلى بريطانيا عبر غرب إفريقيا
إلى إسبانيا ثم فرنسا وبلجيكا
فاسكتلندا ، وبالفعل وصلت
الشحنة إلى لندن سليمة دون أي
ضرر .
كل
المعجنات والشوكولاه والمارون
غلاسيه والمربات كانت تنتج في
مصنع جروبى الذي ما يزال قائماً
حتى اليوم ويعمل بكل آلاته
الأصلية .
يقول
الخادم : طرق التصنيع كانت أمراً
في غاية السرية ، لم يكن يسمح
لعامل واحد أن يعرف كل المكونات
المستخدمة في أي منتج نهائي ،
دائماً كان هناك طاهيان أو
ثلاثة يعملون في جروبى ، وكل
واحد منهم كان مسؤولاً عن مرحلة
واحدة فقط من التصنيع ، وصفات
المنتجات كانت كلها باللغة
الفرنسية التي لم يكن العمال
يفهمونها ، ولهذا حينما وظف
جروبى مديراً سويسرياً يتحدث
الألمانية للمصنع ، اضطر أن
يأخذ دروساً في الفرنسية ليتمكن
من قراءتها ، ويعترف الخادم
بأنه ليست كل منتجات جروبى تصنع
اليوم وفق الوصفات الأصلية لأن
طلبات الزبائن قد تغيرت .
أما
أقدم العمال في جروبى فهو
إبراهيم محمد فاضل الذي يعمل
فيه منذ 60 عاماً ، وهو لم يعمل عن
قرب مع جياكومو جروبى فحسب بل
أيضاً مع ابنه بيانشيه الذي
أصبح شريكاً في الأربعينيات .
نجيب
محفوظ :
ييذكر
فاضل الأيام اتي كان فيها فؤاد
سراج الدين زعيم حزب الوفد ، من
الرواد المداومين على فرع عدلي
باشا كما يقول إن الروائي نجيب
مجفوظ الحائز على جائزة نوبل
كان يتردد على جروبى لقراءة
الصحف هناك .
ماذا
لو كانت الجران تتكلم ، مقهى
جروبى تجسيد لقرابة مئة عام من
تاريخ مصر ومجتمعها المتأنق
والمؤثر ، هذا المجتمع الذي لم
يعد موجوداً إلا في ذاكرة تخبو
يوماً بعد يوم لدى أولئك
المحظوظين ليكونوا جزءاً من ذلك
العالم المثير والمتألق .
للأسف
ليس هناك من شك في أن كل ما تبقى
من أيام مصر الجميلة وعصر أمجاد
جروبى لن نجده قريباً سوى في
أرشيفات السينما أو في بطون كتب
الروايات وسير الشخصيات
التاريخية .
مدخل
جروبى مرصّع بالفُـسيفساء
بطريقة الفنّ القديم " ديكو
"
جياكومو
غروبى فى سطور :
افتتح
جياكومو جروبى ( 1863 – 1947 )
السويسري القادم من كانتون
تيتشينو ، أول محلّ له في مدينة
الإسكندرية
عام 1890 ، ليُصبح فيما بعد أحد
أبرز رجال الأعمال في مجال
الموادّ
الغذائية في مصر .
ثم
افتتح في عام 1909 مقهىً ومطعماً
آخرَ في
شارع
المناخ في القاهرة تحت اسم "
بيت جروبِّـي " ، وسُرعان ما
أصبح نُقطة
التِقاء
أصحاب المُستويات الرفيعة من
المجتمع المصري ، ومن ضباط
الجيش
البريطاني
، أيام الحرب العالمية الأولى .
في
عام 1925 ، إذ اشتهر باسم
جاك ،
افتتح مع ابنه أكيللي ( 1890 – 1949 )
مقهى ومركزا تجاريا باسم
"J. Groppi" في
وسط ميدان سليمان باشا
( اليوم ميدان طلعت حرب ) ، الذي يُعتبر قلب القاهرة التّجاري النّابض. ولا يزال هذا المحل ،ّ بفضل تاريخه العريق وروْنقه المتميز، مركز جذب واهتمام حتى يومنا هذا .
( اليوم ميدان طلعت حرب ) ، الذي يُعتبر قلب القاهرة التّجاري النّابض. ولا يزال هذا المحل ،ّ بفضل تاريخه العريق وروْنقه المتميز، مركز جذب واهتمام حتى يومنا هذا .
في
عام 1926 عاد
جياكومو
إلى كانتون تيتشينو بعد أن عهد
بإدارة أعماله في مصر لابنه
أكيللي ،
فقام
هذا الأخير بتطوير وتحسين العمل
وأدخل عليه جُملة من الابتكارات
والأفكار
التجارية ، حتى غدا المموِّل
الرّسمي للعائلة الملكية
البريطانية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق